المرصد الأوروبي لمحاربة التطرف ـ هولندا
مكافحة الإرهاب ـ النموذج الألماني في محاكمة العائدين من داعش
منذ تراجع تنظيم داعش في سوريا والعراق، عاد مئات الرجال والنساء والأطفال الذين عاشوا في ما كان يسمى بـ”دولة الخلافة” إلى بلدانهم الأصلية، بما في ذلك ألمانيا. ففي نوفمبر 2021، أُدين العراقي طه الجميلي، ليصبح أول شخص في العالم يُحكم عليه بتهمة الإبادة الجماعية التي ارتكبها تنظيم داعش ضد الإيزيديين. ففي صيف عام 2015، قام هو وزوجته آنذاك، الألمانية جينيفر دبليو، بإساءة معاملة امرأة إيزيدية وابنتها، ما أدى إلى وفاة الطفلة. وقد أُدينت جينيفر دبليو بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وحُكم عليها بالسجن لمدة 14 عامًا، وهي أطول عقوبة صدرت بحق امرأة ألمانية عائدة من مناطق التنظيم. تُعد قضيتهما مثالًا على تنوع المنتمين إلى التنظيم في سوريا والعراق، بين مقاتلين متمرّسين ونساء يزعمن أنهن انضممن فقط لأزواجهن، وبين مواطنين ألمان وأجانب لم يغادروا ألمانيا أصلًا، بل وصلوا إلى داعش بطرق أخرى. كما تُظهر هذه الأحكام النهج المميز الذي تتبعه العدالة الألمانية في التعامل مع العائدين بعد سقوط داعش.
الإطار القانوني الألماني
عاد إلى ألمانيا ما لا يقل عن 472 شخصًا من مناطق النزاع، أي نحو 41% من أصل أكثر من 1150 شخصًا غادروا البلاد منذ عام 2011. وبعيدًا عن المخاطر الأمنية واحتمال نشر الفكر المتطرف، تطرح عودتهم، ومن بينهم ما لا يقل عن 130 امرأة بالغة، تحديًا كبيرًا آخر: كيف يمكن محاكمة جرائم ارتُكبت في مناطق حرب بعيدة جغرافيًا وزمنيًا؟ وفقًا لبيانات الحكومة الاتحادية في أبريل 2024، تمّت إدانة 111 من العائدين. وغالبًا ما تعتمد المحاكم على المادتين 129 (أ) و129 (ب) من قانون العقوبات الألماني، اللتين تنظمان قضايا الدعم أو الانتماء إلى منظمة إرهابية في الخارج. ومنذ عام 2014، سُمِح بملاحقة الجرائم المرتكبة لصالح تنظيم داعش استنادًا إلى تفويض من وزارة العدل الاتحادية.
أداة قانونية أخرى أساسية هي “قانون الجرائم الدولية” الألماني (VStGB) الذي أُقر عام 2002، ويُعد بمثابة تطبيق للقانون الدولي الخاص بالجرائم الكبرى مثل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية. يسمح هذا القانون للمحاكم الألمانية بمحاكمة هذه الجرائم، حتى وإن ارتُكبت خارج ألمانيا. وفي سياق داعش، استُخدم هذا القانون خصوصًا ضد نساء مثل جينيفر دبليو وجالدا أ. ونادين ك. كما يتيح هذا الإطار للعدالة الألمانية النظر في القضايا الخطيرة التي لا ترتبط مباشرة بالأراضي الألمانية. وبفضل مبدأ “الاختصاص القضائي العالمي”، تمكنت ألمانيا من محاكمة أشخاص غير ألمان ولم ينطلقوا من أراضيها، مثل طه الجميلي الذي تم ترحيله من اليونان.
أبرز التحديات في هذه القضايا
أبرز التحديات في هذه القضايا يتمثل في الوصول إلى الأدلة، فمعظم الجرائم ارتُكبت في مناطق حرب سابقة داخل سوريا والعراق، ما يجعل التحقيقات الميدانية بالغة الصعوبة، كما يصعب الوصول إلى الضحايا أو التعرف عليهم. وفي هذا السياق، كان التحقيق الهيكلي الذي أطلقه الادعاء الفيدرالي الألماني حول داعش ذا فائدة كبيرة، إذ تجمع السلطات المعنية الأدلة المتعلقة بالنزاع وتقيّمها بشكل شامل، بما في ذلك شهادات أكثر من 1100 امرأة وفتاة إيزيدية لجأن إلى ألمانيا بعد الإبادة الجماعية.
تساعد آليات دولية مثل فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة (UNITAD) والآلية الدولية المستقلة (IIIM) الخاصة بسوريا على توفير الأدلة الميدانية للنيابات الوطنية. كما تُعد فرق التحقيق المشتركة الأوروبية (JIT) عاملًا حاسمًا في نجاح ملاحقة هذه الجرائم. وتستند الاتهامات في كثير من الحالات إلى شهادات ضحايا إيزيديات أو عائدين آخرين، أو إلى صور ومنشورات على الإنترنت، أو تحليل الأجهزة الإلكترونية المصادرة، وأحيانًا إلى اعترافات المتهمين أنفسهم.
منهج جديد لإثبات الانتماء إلى منظمة إرهابية
كان على القضاء الألماني تحديد الدور الدقيق للمتهمين، ولا سيما النساء. ففي عام 2018، رأت المحكمة الاتحادية أن مجرد الوجود في مناطق سيطرة داعش لا يكفي لإثبات الانتماء إلى منظمة إرهابية. لكن مع مرور الوقت، طوّر الادعاء منهجًا جديدًا يركز على إثبات أن القيام بمهام منزلية أو تربية الأطفال وفق فكر التنظيم يمكن أن يُعد مساهمة في أنشطته الإرهابية. كما أن بعض الجرائم، مثل حيازة أسلحة أو المشاركة في النهب، لم تكن ممكنة إلا بفضل الانتماء إلى التنظيم. وقد أسهم هذا النهج الصارم في جعل ألمانيا نموذجًا رائدًا في محاكمة الجرائم الدولية.
ميزات خاصة بالتجربة الألمانية
تتميز ألمانيا بخصوصيتين رئيسيتين في تعاملها مع جرائم داعش. الأولى هي الجمع بين ملاحقة الجرائم الإرهابية والجرائم الدولية الكبرى مثل الإبادة وجرائم الحرب، وهو ما جعلها مع هولندا والسويد في طليعة الدول الأوروبية في هذا المجال. أما الثانية، فهي الدور البارز الذي منحته للضحايا، خصوصًا الإيزيديين، من خلال إشراكهم كشهود أو كمدعين بالحق المدني، مما أتاح لهم منصة لإسماع أصواتهم. وبفضل مبدأ الاختصاص العالمي، أصبحت ألمانيا من الدول القليلة التي اعترفت بمعاناة الإيزيديين وسعت إلى تحقيق العدالة لهم.
ما بعد المحاكمة
لكن هذه النجاحات القضائية لا تعني نهاية التحديات، فمحاكمة العائدين تثير قضايا حساسة تتعلق بالتوازن بين العدالة والأمن وحقوق الإنسان، حتى بالنسبة لمن يُشتبه أو يُدان بارتكاب أعمال إرهابية. ومن أبرز الانتقادات الموجهة للنهج الألماني، ضعف بعض الأدلة، وطول فترات الاحتجاز السابق للمحاكمة، والإجراءات الأمنية المشددة. ورغم أن بعض العائدين أعربوا عن ندمهم، فإن آخرين ما زالوا متمسكين بأفكار متطرفة ويرفضون شرعية الأحكام ضدهم. في كلتا الحالتين، يبدأ العمل الحقيقي بعد صدور الحكم، إذ تشكّل برامج إعادة التأهيل داخل السجون أداة أساسية للحد من خطر العودة إلى التطرف والمساعدة في إعادة إدماجهم في المجتمع.
المرصد الأوروبي لمحاربة التطرف ـ هولندا



