المرصد الأوروبي لمحاربة التطرف ـ هولندا
د.محمد العرب https://x.com/malarab1
حين أعلنت داعش قيام ما أسمته ولاية شرق آسيا عام 2014، لم يكن ذلك مجرد استعراض جغرافي لغرض التوسع الرمزي، بل كان استثماراً طويل الأمد في تربة رخوة، لم يعرفها كثير من صُنّاع القرار خارج خرائط النفط والغاز والصراعات التقليدية….! جنوب شرق آسيا، بما تحويه من أرخبيلات مفتوحة وحدود رخوة ونزاعات مؤجلة، شكلت دائماً خاصرة لينة في جغرافيا الأمن الدولي. واليوم، مع انحسار تنظيم الدولة في سوريا والعراق، تزداد المؤشرات التي تُنذر بإمكانية عودة الجماعات المسلحة إلى المسرح، لكن هذه المرة ليس من ريف حلب أو صحراء الأنبار، بل من أدغال مينداناو وسواحل بالي وكهوف باتاني.
الجماعات المتطرفة في جنوب شرق آسيا
الزمن لم يبتلع كل الإرث الجماعات الارهابية التكفيرية الذي تراكم في جنوب شرق آسيا منذ التسعينيات، بل إن الكثير من بُناه التحتية لم تُستأصل، بل خضعت لإعادة تشكيل صامتة في ظل انشغال العالم بجبهات أخرى اكثر اهمية سياسيا ، فالعديد من الخلايا التي تشكلت في أحضان جماعة أبو سياف، وجماعة (ماوتي) ، والجماعات الصغيرة المنبثقة من (الجماعة الإسلاموية) في إندونيسيا، لم تختفِ بقدر ما أعادت التموضع. بعض أعضائها دخل السجون، وآخرون عادوا إلى مجتمعاتهم دون برامج إعادة تأهيل جادة، بينما بقيت شبكات الدعم المالي واللوجستي قائمة، خصوصاً في المناطق ذات الكثافة الإسلامية الضعيفة الرقابة.
التهديد لا يكمن فقط في عدد المقاتلين أو مدى تسليحهم، بل في قدرتهم على التحول إلى كيانات متكيفة مع طبيعة الأرض والمجتمع. الجماعات المسلحة في جنوب شرق آسيا لا تشبه مثيلاتها في الشرق الأوسط تماماً ، فهي أقل اعتماداً على الخطاب الطائفي، وأكثر قدرة على اختراق المجتمعات عبر بوابات العشيرة والتجارة وحتى الزواج المختلط.
وهذا يمنحها شرعية محلية يصعب تفكيكها أمنياً. وما يزيد من تعقيد المعادلة هو الطابع الجغرافي للمنطقة: آلاف الجزر المتناثرة، غابات كثيفة، سواحل مفتوحة، وحدود بحرية شبه مستحيلة الرقابة، وهو ما يجعل منها جنة لأي حركة تسعى للتخفي والمراوغة.
الإشارات التحذيرية ليست قليلة. فالتقارير الاستخباراتية التي رُفعت إلى مجلس الأمن بين عامي 2022 و2024، تحدثت بوضوح عن تحركات (غير نمطية) لمقاتلين أجانب داخل الفلبين وإندونيسيا وماليزيا، كما تم رصد تدفقات مالية مشبوهة تمر عبر قنوات الجمعيات الخيرية والشبكات البنكية غير الرسمية والعملات الرقمية ، في بعض المناطق وخاصة في إقليم مينداناو، تم تسجيل حالات عودة مفاجئة لعناصر كانت مطلوبة في فترات سابقة، وعادوا تحت مسميات (الصلح الاجتماعي) أو (التوبة القبلية) بينما في الحقيقة أعادوا بناء شبكات صغيرة على مستوى الحاضنة الشعبية.
العنصر الأخطر في هذا السياق هو التواطؤ الصامت لبعض القوى الإقليمية التي ترى في هذه الجماعات أوراق ضغط ضد خصومها. فكما استُخدمت الجماعات “الجهادية” في الحرب الباردة لإضعاف الخصوم الأيديولوجيين، فإن بعض الأجهزة في جنوب آسيا لا تمانع في غض الطرف عن نشاط تلك الجماعات طالما لم تُهدد الأمن الداخلي بشكل مباشر. هذا التوازن الساخر بين الاستفادة من الجماعات والتظاهر بمحاربتها، يفتح الباب أمام نمو غير محسوس للخلايا الإرهابية حتى تصل لحجم يصعب احتواؤه.
جيل “الجهاديين” الجدد في جنوب شرق آسيا
والجديد في المعادلة أن الجيل الجديد من الجهاديين في جنوب شرق آسيا أكثر تكنولوجيا وأقل تعلقاً بالفكر الارهابي التقليدي. فهم يجيدون التخفي الرقمي، ويمارسون الدعاية عبر تطبيقات مثل تيليغرام وإنستغرام ومواقع التواصل عموماً ، ويستثمرون في العملات الرقمية للتمويل، مما يجعل تعقبهم عملية بالغة التعقيد. هم لا يحتاجون إلى خلايا ضخمة للانتشار، بل يكفيهم التأثير الرمزي لإعادة إشعال الجذوة في منطقة تشبه برميل بارود موقوت. بل إن بعض المحللين بدأوا يتحدثون عن (ارهاب هجين) يجمع بين القتال التقليدي وحروب السايبر، وهي سمة بدأت تظهر ملامحها في هجمات سيبرانية منسقة طالت بنوكًا ومؤسسات أمنية في إندونيسيا وتايلاند، دون تبنٍّ مباشر، ولكن بشيفرات رقمية مرتبطة بمجموعات ذات خلفيات متشددة.
الصعود الصيني والضغط الأمريكي
في كل هذا، لا يمكن تجاهل الصعود الصيني والضغط الأمريكي في المنطقة، وما يخلفه من فراغات مؤقتة على مستوى النفوذ والرقابة. فبينما تتصارع القوى الكبرى على التجارة والممرات البحرية، تختبئ الجماعات المسلحة في ظل هذا الصراع، وتتغذى على الاضطراب السياسي والتفاوت الاقتصادي. ومن المؤسف أن معظم سياسات المواجهة في هذه الدول لا تزال أمنية بحتة، دون وجود حلول حقيقية لتجفيف منابع التطرف مثل الفقر، التهميش، وغياب التعليم النوعي.
إن السؤال ليس: هل تعود الجماعات المسلحة في جنوب شرق آسيا؟
بل: متى؟ وبأي قناع؟
هل ستعود بشكل داعش؟ أم ستأتي بوجه أكثر تكيفاً مع الواقع المحلي؟ هل سنراها مرة أخرى تحت راية سوداء؟ أم ستختبئ هذه المرة خلف لافتة عرقية أو سياسية أو إنسانية؟
الإجابة قد لا تكون في يد المراقب، لكنها بالتأكيد في يد من لم يغلق بعد تلك المنافذ الملعونة التي لا تزال تنفث دخانها من أدغال الأرخبيل… ومن خرائط لم تُرسم بعد بالحبر، بل بالدم.
*حقوق النشر محفوظة للمرصد الأوروبي لمحاربة التطرف