DW ـ 27 إبريل 2019 ـ في عام 2013، التحقت مجموعة من الشباب من بلدة دينسلاكن – لوبرغ في منطقة الرور بغرب ألمانيا للقتال في صفوف تنظيم “داعش” الإرهابي في سوريا. ما هي آثار ذلك على البلدة وسكانها؟ إيستر فيلدن زارت البلدة الهامشية ووثقت الأتي.تهيمن الريبة وانعدام الثقة على الأجواء. يشاهد بعض الأشخاص الذين خرجوا على الرغم من سوء الأحوال الجوية هذا المساء السيارة التي تتحرك ببطئ. فيقول السائق أوناي دورانوز:” كل من يأتي إلى هنا مراقب، وخصوصاً الغرباء”. فيما يجلس عمر شنغافي في المقعد الخلفي للسيارة.يبلغ عدد سكان منطقة لوبرغ 6 آلاف نسمة، وتقع على مشارف بلدة دينسلاكن وهي جزء من منطقة الرور بولاية شمال الراين وستفاليا (NRW)، الولاية الأكثر اكتظاظاً بالسكان. فيما يبلغ عدد سكان دينسلاكن 70 ألف نسمة.
وقبل عدة سنوات اشتهرت البلدة النائية فجأة كنقطة محورية للسلفية وتحديداً في عام 2013، حيث ذاع صيتها خارج حدود البلاد كتجمع للسلفيين.وفقًا للمعلومات الواردة من جهاز حماية دستور في الولاية “جهاز الأمن الداخلي”، فإن أكثر من عشرين شاباً من هذه البلدة انتقلوا إلى الجهاد المزعوم معلنين أنفسهم محاربين باسم الله. أطلقوا على أنفسهم اسم “كتيبة لوبرغ” وقاتلوا في سوريا والعراق. إذ قاتلوا في البداية مع جبهة النصرة ولاحقاً مع”داعش”. وكان معظم هؤلاء الشباب من أبناء العائلات المهاجرة الحاصلين على الجنسية الألمانية.والجدير بالذكر أن حوالي نصف سكان “لوبرغ” ينحدرون من أصول أجنبية، حيث أن معظم العائلات في تلك المنطقة جاءت من تركيا التي شهدت هجرة أول أفواجها إلى ألمانيا في خمسينيات القرن الماضي. قدموا إلى ألمانيا كـ”عمال ضيوف” لبناء حياة أفضل في مجال التعدين والمناجم.
وجهات نظر مختلفة
بعد الموجة الواضحة للهجرة إلى الشرق الأوسط، وصل العشرات من الصحفيين إلى دينسلاكن-لوبرغ، مدفوعين بسؤال كيف يمكن أن يحدث شيء كهذا في مقاطعة ألمانية بغرب البلاد. لا يزال أوناي دورانوز، وعمر شنغافي يتذكران كل الأحداث جيداً. لقد شهدوا التطورات من جهات مختلفة.عمر شنغافي في أوائل العشرينات من عمره. يدرس التربية الاجتماعية في دورتموند. نشأ هذا الشاب الأنيق ذو اللحية المنسقة في وسط مدينة دينسلاكن. غير أن لديه العديد من الأصدقاء في لوبرغ. وينحدرعمر من عائلة مسلمة متدينة من المغرب العربي.
أما بالنسبة لدورانوز فينحدر من أصول تركية. وهو رجل في أواخر الثلاثينات من عمره، طويل القامة يبدو عليه الهدوء والدفء القاسي. جاء العامل الاجتماعي إلى لوبرغ “كأجنبي” في عام 2011، على حد قوله، ونشأ على بعد حوالي 20 كم من المنطقة في مدينة دويسبورغ.وفي السنوات الثماني التي عمل فيها في لوبرغ، أصبح دورانوز جهة اتصال مهمة للعديد من العائلات. وكموظف في جمعية حماية الطفل الألمانية، تولى منصب مدير قسم الشباب حديثاً في عام 2013، حيث أن مهمته الأساسية تتمحور على دعم الشباب في لوبرغ في الانتقال من المدرسة إلى الحياة العملية.
التطرف وسط دينسلاكن
وصلنا بالسيارة التي كان يقودها دورانوز إلى لوبرغ مروراً بـ”يوهانسبلاتس” ثم انعطفنا وتوقفنا أما ما يسمى “ليديغنهايم”، حيث كان يقطن عمال المناجم غير المتزوجين. أما اليوم فيضم المبنى المشيد من الطوب، من بين أشياء أخرى، مركزاً ثقافياً والعديد من الأندية، حيث لعب المكانان دوراً هاماً في تأسيس ما عرف بـ” كتيبة لوبرغ”.يقول يورانوز: “في يوهانسبلاتس، كان شباب المنطقة آنذاك يلتقون يومياً للتسكع سوية”. فلا يمتلك أحد منهم أي وظيفة أو عمل. فعندما انهار المنجم المحلي في عام 2005 وفقدت آلاف الوظائف دفعة واحدة، اختفت الآفاق المستقبلية معها أيضاً.
حوالي واحد من بين أربعة شباب من لوبرغ كان عاطلاً عن العمل عندما تردد مصطفى ت. بانتظام إلى يوهانسبلاتس، الرجل الذي استغل ذلك الوضع ونجح في بناء خلية متطرفة في غضون بضعة أشهر في لوبرغ. يتذكر أوناي دورانوز لقاءه المباشر الوحيد معه: “لقد كان جالساً هناك، وبصحبته بعض الشباب الذين أعرفهم”. وصل في منتصف حديثه ولاحظ كيف أن مصطفى ت. نبه الشباب إلى تعاملهم مع بعضهم البعض باحترام وأن يكونوا مهذبين مع كبار السن: “قال، على سبيل المثال، إنهم يجب أن يساعدوا السيدات الكبيرات في السن اللواتي يحملن أكياس التسوق الثقيلة”. كان انطباعي الأول عنه إيجابياً في ذلك الوقت، يعترف قائلاً: “لقد انذهلت، وسررت بوجود شاب يقول أشياء عظيمة فيما يصغي إليه الآخرون” .
كان مصطفى.ت ينحدر من عائلة تركية محترمة، وكان الأب عضواً في مجلس إدارة المسجد المحلي. اعتقد كثير من البالغين في ذلك الوقت بأن ما يقوم به لصالح الأولاد. ففي صيف عام 2011 أسس مصطفى “جمعية تعليمية” بإذن من البلدية واستأجر مباني بالقرب من “ليديغنهايم”، حيث التقى مع أتباعه الذين بلغ عددهم حوالي 30 شاباً، وكانت المواضيع تدور غالباً حول إقصاء المسلمين داخل مجتمع الأغلبية الألمانية وكراهية الإسلام المتزايدة.
التنكر الواضح
في قرية التعدين السابقة تصطف المنازل الصغيرة مع الحدائق الأمامية على نحو جميل وأنيق. تذكرنا أسماء الشوارع بالأزمنة القديمة، عندما كان منجم الفحم لوبرغ لا يزال قيد العمل. يمكنك المرور عبر “تسيخنشتراسه”، أو “شاختشتراسه” أو “شتايغرفيغ” حيث يقع مبنى “ليديغنهايم”، المكان الذي استأجر فيه مصطفى ت قاعة لجمعيته.كان عمر شنغافي يحضر الاجتماعات في الأيام الأولى مع المجموعة. في بادئ الأمر رأى أنه من الإيجابي أن يكون هناك نشاطات ترفيهية جديدة للشباب المسلمين: “هؤلاء كانوا مجرد أشخاص يريدون الهروب من الشوارع، كانوا يبحثون عن معنى لحياتهم ثم استسلموا للدين”.
غير أنه سرعان ما توقف عن الذهاب إلى “الجمعية التعليمية” بسبب شعوره بالضيق وعدم الارتياح، ويقول “باتت الدلائل واضحة على أن الأمور تسير في اتجاه خاطئ”.لقد قام والداه الليبراليان بحمايته من مصطفى ت، عمر مقتنع بذلك. في حين كان الآخرون فريسة سهلة: “إنهم يتناسبون مع المخطط، وكانوا بلا آفاق وعرضة للكراهية، التي شحنت عمداً”.
قانون الصمت
شارك عمر ريبته في مسجد البلدة، “لكنني لم أجد أذناً صاغية سوى والدي”. لقد استمع مجلس الإدارة إلى مخاوفه، لكنه لم يحرك ساكناً: “أعتقد أنه كان هناك قلقاً من ظهور الأجهزة الأمنية في المسجد”.لعب الصمت والعزلة دوراً قوياً لصالح مصطفى ت. فقد كان قادراً على تجنيد مجندين دون مضايقة لفترة طويلة من الزمن. وتقول مسؤولة الشؤون الاجتماعية في مدينة دينسلاكن، كريستا يانكي هورستمان لـ DW، “كان ذلك مقلقاً فعلاً، لأن معظمهم لم يلاحظوا في وقت سابق”.كان عمر شنغافي يعرف جميع أعضاء ” كتيبة لوبرغ” الذين أطلقوا على أنفسهم هذا الاسم، بما في ذلك فيليب ب. الذي فجر نفسه بالقرب من مدينة الموصل العراقية في عام 2015 وقتل 20 كردياً، أو مصطفى ك، الملقب بـ “جوفي”، الذي نشر صورة لنفسه على شبكات التواصل الاجتماعي مبتسماً مع رأس مقطوع في يده. وكذلك الآخرين، الذين ذهبوا فجأة.
بالإضافة إلى ذلك، غادر أربعة شباب آخرين في خريف عام 2013. ومع ذلك، عادوا من سوريا بعد شهر واحد فقط، في ظل ظروف غير واضحة. وذكرت المجلة الأسبوعية الألمانية “شتيرن” أن هناك اتصالات عائلية خاصة ومفاوضين في منطقة الحدود التركية السورية في محاولة لإعادة أولادهم إلى دينسلاكن مقابل تقديم المال لهم أو السيارات.كان الأربعة قد تسللوا بعد عودتهم، يتذكر العامل الاجتماعي دورانوز: “لقد شعروا بالخجل، ولم يتمكنوا من تحمل نظرات آبائهم”. في لوبرغ، احتراماً وولاء لأقارب العائدين، الذين يعرفون بعضهم البعض في المنطقة، لم يصدر أحد تصريحات عامة: “هذه قاعدة شائعة في لوبرغ، ألا تتحدث بالسوء عن العائلات الأخرى”. الحنين إلى الحياة الطبيعية
لا يريد الشباب الأربعة أن يكون لهم أي علاقة بالصحافة اليوم. تركوا الأمر لأوني دورانوروز ليتحدث نيابة عنهم – الرجل الذي ساعدهم في ذلك الوقت.بعد أسابيع قليلة من عودته من سوريا، وقف أحد الشباب فجأة في مكتبه وطلب المساعدة: “قال إنه يريد فقط أن يعيش حياة عادية وأن يعمل”. كان الولد قلقاً من أنه لن يجد وظيفة لأنه يخشى أن يقوم الأمن بإبلاغ كل صاحب عمل بماضيه. “قال لي: من سيقبل بتوظيف إرهابي؟”استمع دورانوز إلى الشاب وبعد ذلك إلى العائدين الآخرين. ولم يقم بطرح أي اسئلة حول سوريا أو لماذا وغير ذلك، وإلا لما عاد إليه أحد، كان مقتنعاً بذلك. تمكن الأربعة، كما يقول العامل الاجتماعي، من إعطاء حياتهم بنية جديدة. ثلاثة منهم قد أسسوا أسراً، وكان الجميع يعملون. وحصل الشاب الذي جاء إليه أولاً على وظيفة دائمة في شركة صناعية في المنطقة لعدة سنوات: “أنا فخور بشكل خاص بهذا الفتى”.
الاندماج كمهمة طويلة الأجل
يقول دورانوز قبل عام 2013 لم يكن الكثير من الشباب قادرين على إيجاد وظيفة في الشركات المجاورة. ولكن من خلال العروض لـ”يوغندكارتيرز” التابعة لجمعية حماية الطفل، بدعم من المدينة، تغير الوضع بعض الشيء لوبرغ.يهتم مشروع “يوغندكارتيرز” بما يصل إلى 300 من الفتيان والفتيات في السنة. “لكن هذا لا يعني أننا أدخلنا الجميع في التدريب المهني، وفي بعض الأحيان كان الأمر يتعلق بأسئلة أساسية: كيف يمكنني التسجيل في مدرسة مهنية، ما هي فرص التعليمية والمهنية؟”
بعد صدمة الرحيل، سعت إدارة مدينة دينسلاكن أيضاً إلى الاتصال بالمنظمات الإسلامية على وجه الخصوص بحسب ما أفادت مسؤولة الشؤون الاجتماعية كريستا يانكي هورستمان: “خصوصاً في لوبرغ، حيث تبلغ نسبة المهاجرين فيها حوالي 45 في المئة، لدينا جمعيات إسلامية مختلفة ومن المهم بالنسبة لنا أن نعالج المشاكل معاً”.غير أن الطالب عمر شنغافي يعتقد أن هناك حاجة لعمل المزيد. ويطالب بالمزيد من الأئمة الذين تلقوا تعليماً في ألمانيا وباللغة الألمانية: “كثير من الشباب هنا يحلمون الألمانية، والألمانية هي لغتهم، والإمام الذي يعرف اللغة الألمانية لديه مفتاح التواصل مع الشباب”.
وإذا اختفى حاجز اللغة في المساجد، فقد يواجه السلفيون المتطرفون، من أمثال مصطفى ت صعوبة في التأثير على المراهقين. ويقول عمر:”من المحزن مغادرة الشباب وقدراتهم فجأة”. ربما كان لدى بعض العائدين مثله الأشياء التي يجب دراستها.
الحياة تستمر
“من وجهة نظرنا، لم تعد السلفية موضوعاً ذا صلة في دينسلاكن”، تقول مسؤولة الشؤون الاجتماعية كريستا يانكي هورستمان. في الواقع ، لم يعد اسم دينسلاكن ومصطلح “كتيبة لوبرغ” يظهران في تقارير الحماية الدستورية السنوية لولاية شمال الراين ويستفاليا منذ عام 2016.ومصطفى ت؟ الرجل الذي بدأ كل شيء؟ هناك الكثير من الشائعات حوله، ولكن لا شيء مؤكداً. اختفى مصطفى بعد وقت قصير من مغادرة المجموعة الأولى من لوبرغ بحسب أوناي دورانوز وعمر شنغافي. يعتقد عمر بأنه رآه يصلي في مسجد في دويسبورغ منذ حوالي عام: “أنا متأكد بأنه هو، إلا أنه قد تغير كثيراً، كان يرتدي بنطلوناً عصرياً، وقميصاً قصير الأكمام، ولحية قصيرة، في حين كان يشدد على أن اللحية الطويلة في الإسلام إلزامية”. فيما لم تؤكد لجنة حماية الدستور أن ذلك الشخص هو مصطفى.
أما بالنسبة لسكان منطقة لوبرغ، يقول عمر: “لايزال هناك أثر لما حدث في ذلك الوقت، ولكن بالكاد يتحدث أي شخص عن ذلك”. قتل معظم أعضاء “كتيبة لوبرغ” في سوريا والعراق. وفي الحي الصغير الذي نشأوا فيه، عادت الحياة اليومية منذ فترة طويلة. حياة يومية يسودها الصمت، ويراقب الغرباء فيها بشكل مريب.
رابط مختصر :https://eocr.eu/?p=461