المرصد الأوروبي لمحاربة التطرف ـ هولندا
ادعاء خطورة اليمين المتطرف في أوروبا أمر مبالغ فيه وغير مفيد
اندبندنت عربية ـ عندما بدأت النتائج الأولية لانتخابات إسبانيا العامة “الطارئة” نهاية الأسبوع الماضي بالظهور عكست ردود الفعل، أقلها في الأوساط غير الإسبانية، ارتياحاً أقل وإحباطاً أكبر. وعلى رغم أنه كان يعتقد على نطاق واسع أنها فرصة لليمين المتطرف للفوز بحصة من السلطة في إسبانيا لأول مرة منذ عهد ديكتاتورية الجنرال فرانكو – لكن يا للمفاجأة والصدمة، ألن يتعلم أبناء القارة الأوروبية أبداً – فالنتائج أظهرت تجدداً للتركيبة القديمة نفسها [لم تأت بجديد].
مع الانتهاء من فرز جميع الأصوات، بدا واضحاً أن إسبانيا كانت بعيدة جداً من بدء مشوار جديد من الغزل [التقارب] مع الفاشية. لقد أبلت أحزاب يسار الوسط بلاء أفضل مما كان متوقعاً، فيما لم يفشل حزب اليمين المتطرف “فوكس” Vox في اختراق الساحة النيابية فحسب، بل خسر أكثر من ثلث عدد مقاعده الحالية في البرلمان والبالغة 52 مقعداً. الانتخابات لم ينتج منها سوى إعادة تثبيت الانقسام الذي كان قد اقنع رئيس الوزراء [بضرورة] الدعوة إلى إجراء الانتخابات في الأصل، مع استمرار أحزاب الاستقلاليين [الانفصاليين] من الباسك والكتالونيين في الإمساك بتوازن القوة [القادر على ترجيح سطوة هذا الفريق أو ذاك].
محصلة ذلك هي أن الإسبان ربما سيكونون على وشك العودة إلى صناديق الاقتراع قريباً. حزب “فوكس” Vox، وبحسب الاختصاصيين في استطلاعات الرأي، ليس للمرة الأولى في الانتخابات الأوروبية الأخيرة، خرج من هذه الانتخابات كخاسر رئيس.
ولكن لماذا تجذب أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية هذا الكم الهائل من التوقعات المخيفة من قبل المراقبين الخارجيين، في الوقت الذي لا تتطابق فيه حصتهم الفعلية في الأصوات مع التوقعات؟ سواء كان ذلك في انتخابات الرئاسة الفرنسية، أو في منطقة من مناطق ألمانيا، أو ــ كما هو الحال الآن ــ في الانتخابات العامة في إسبانيا، يبدو أن التهديد المفترض من اليمين المتطرف يسيطر على التغطية الإخبارية قبل الانتخابات، ثم يختفي هذا الخطر عند وصول أصوات الناخبين إلى صناديق الاقتراع.
حالياً، يمكننا أن نجادل ربما بأن عملية المبالغة بمستوى الخطر الذي قد يشكله اليمين المتطرف هو بمثابة خطوات تكتيكية مقصودة من الأحزاب الرئيسة لتخويف الناخبين ــ وربما كان هناك البعض من ذلك، لكن يبدو أيضاً أن الميل إلى تعظيم مستوى التهديد، والذي قد يمكن تسميته الشعبوية، أو القومية، أو التطرف، يصدر وبشكل أكبر عن جهات هي عادة خارج البلاد.
إن تلك المبالغة تبدو دائماً وكأنه يصر عليها خصوصاً في المملكة المتحدة، حيث إنها تحمل في طياتها أكثر من نفحة من الشعور بالتفوق ــ مصدرها ما كان يقال عن “إننا وقفنا وحيدين” في وجه النازية والفاشية، فيما كان “أبناء عمومتنا” في القارة الأوروبية يستسلمون لها، لكن، يمكننا القول أيضاً إن غياب أي حزب جدي يمثل تيار اليمين في المملكة المتحدة، اليوم، سببه ربما أن النظام الانتخابي المعمول به في بريطانيا، والذي يؤمن الفوز للحزب الذي يحقق غالبية بسيطة، إضافة إلى الرفض الشعبي السائد، لأفكار اليمين المتطرف بالطبع، لكن وبعد كل هذا، لا يجب أن ننسى، أنه كانت هناك فترة نجح فيها الحزب القومي البريطاني BNP، بالفوز بمقاعد لمرشحيه في الانتخابات المحلية، حتى ولو كانت فترة صعود الحزب الذهبية هذه قبل 20 عاماً من اليوم.
هل يمكن إذاً، أنه وبعد أن بدا أن البلاد قد نجحت في قتل تنين [شبح التطرف] في الوطن، فإننا نميل إلى تضخيم خطره في الخارج؟ ربما يكون هناك شيء من هذا، ولكن هناك ميل أيضاً إلى عدم إدراك بأن بعض ما أدى إلى فشل الحزب القومي البريطاني قد يمكنه أن يقضي على البعض من أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية، وقد يمكنه أن يكشف الأسباب التي أدت إلى الخسائر التي لحقت بحزب فوكس Vox اليميني المتطرف الإسباني الأسبوع الماضي. ويكمن الأمر في أنه بمجرد حصولها على تفويض انتخابي، تواجه تلك الأحزاب صعوبة في تحقيق التوقعات التي أثارتها.
لقد كان ذلك صادماً. على سبيل المثال، كان أداء حزب “فوكس” سيئاً بشكل خاص في المناطق التي تشارك فيها السلطة المحلية مع الأحزاب الرئيسة. وربما يكون سبب ذلك، أن بعض الناخبين لم يفهموا العقبات التي تأتي مع التشارك في السلطة، وشعورهم بخيانة حزب “فوكس” عندما فشل في الوفاء بالوعود التي كان قد قطعها. ويمكن أن يكون مرد ذلك أيضاً، إلى أن البعض، وخصوصاً من طبقة الشباب من الناخبين، قد نجحوا في كشف حقيقة ما يمثله الحزب فجأة ــ ومن ضمن ذلك مستوى التزامه المحافظ اجتماعياً ــ والذي يرون بأنه غير مقبول، ومن خلال ذلك عادوا لاعتناق مواقف أكثر إلى يمين الوسطية. إن قضاء مثل تلك الأحزاب فترة في السلطة من شأنها أن تشكل نوعاً من الردع لمن يؤيدها، بدلاً من أن يكون ذلك مصدر جذب.
وهنا يجب علينا أن لا نستهين بتأثير الذاكرة التاريخية كوسيلة رادعة. من السهل، من وجهة نظر خارجية، أن نعتقد أنه وبعد مرور نصف قرن تقريباً، قد تمكن الإسبان من دفن تجربة الجنرال فرانكو في الماضي البعيد، أو أن بعضهم قد يرى تلك الذكرى بحنين. تشير نتائج هذه الانتخابات إلى أن التاريخ لا يزال يمارس تأثيره المناعي، وهذا ما يحدث في مناطق أخرى أيضاً.
عملياً، إن أي انتخابات فرنسية جرت خلال الـ30 عاماً الماضية، أو أكثر، كانت قد جرت وسط التحذير من أن [السياسي اليميني] جان ماري لوبان، أولاً، ثم ابنته مارين، كان في إمكانهما أن ينتزعا السلطة لصالح حزب الجبهة الوطنية ــ والذي أعيدت تسميته حزب التجمع الوطني، لكن ذلك لم يتحقق. وكان العام الذي اقتربت تلك الإمكانية من أن تبصر النور عام 2002، عندما وصل جان ماري لوبان إلى المراحل النهائية ضد جاك شيراك، كان أيضاً العام الذي انحسر فيه تأثير الحزب القومي الفرنسي إلى أقسى درجة، مع تحقيق جاك شيراك فوزاً بهامش أعتبر غير مسبوقا [في تاريخ الانتخابات الفرنسية].
حزب الجبهة الوطنية National Front كان قد نجح في السيطرة على بعض المجالس المحلية، وأبرز تلك المكاسب اعتبرت ربما ذلك النجاح الساحلي [وفي المدينة حيث مركز كبير للبحرية الفرنسية] في مدينة طولون في عام 1995، عندما كان هناك تصويت قوي لصالح اليمين المتطرف في أكثر مدن الجنوب الفرنسي، لكن نفس تلك التجربة الانتخابية لصالح اليمين المتطرف في السلطة ربما كانت السبب في الترويج ضد نجاح حزب فوكس الإسباني المتطرف الجديد، قد قاد في العموم إلى فشل تيار اليمين الفرنسي في خسارة نسبة مماثلة لما كانت قد كسبته. إن المدى الذي يمكن أن نعتبر من خلاله أن التصويت لصالح اليمين المتطرف هو بمثابة احتجاج محلي ــ ضد الحرمان، والإهمال من قبل دولة المركز، وضعف البنى التحتية وغيرها ــ لا يجب أن نحجبها أيضاً عن كونها أسباب ــ والتي يمكنها أن تكون أيضاً السبب، لماذا لا يترجم النجاح على المستوى المحلي [لتلك الأحزاب] إلى نجاح على المستوى الوطني.
بعض الظروف من شأنها المساعدة على شرح لماذا من المستبعد أن تؤدي الانتصارات الأخيرة لحزب اليمين المتطرف الألماني “حزب البديل للأمة الألمانية” Alternative fuer Deutschland (AfD)، في أن يصبح ظاهرة وطنية. أحد هذه الأسباب هو الذاكرة السياسية، لكن الخصوصيات الاجتماعية هي سبب آخر: لأن قوة “حزب البديل للأمة الألمانية”، تتمركز في غالبيتها في مناطق ألمانيا الشرقية السابقة، التي لا تزال تشعر بالإهمال، على رغم من الجهود الكبيرة التي تبذلها الحكومة المركزية، وحيث يبدو أن هناك تلقيحاً أضعف حيال أمراض الماضي هناك. وجاء فوز “حزب البديل للأمة الألمانية” في سونينبيرغ Sonneberg، وهي مقاطعة إدارية صغيرة نسبياً، تقع في الشرق الألماني، حيث نجح الحزب في السيطرة على المجلس المحلي فيها لأول مرة، لكن زعيم حزب يمين الوسط الألماني للاتحاد الديمقراطي المسيحي CDU، فريدريك ميرز Friedrich Merz، توجب عليه التراجع بذكاء عن فكرة قدمها عن إمكانية التعاون على المستوى المحلي ــ وهو ما يطرح إلى أي حد لا يزال “حزب البديل للأمة الألمانية” بعيداً من السلطة بشكلها الأوسع.
التفاصيل هي أيضاً مهمة في البلدين الأوروبيين، حيث يمكن القول إن اليمين المتطرف قد نجح في الفوز بالسلطة على المستوى الوطني. في إيطاليا، حيث جورجيا ميلوني Giorgia Meloni، وحزبها “الإخوة الإيطاليون” Brothers of Italy، الذي يوصف بامتلاكه لـ”جذور تعود للفاشيين الجدد”، يقود تحالفاً مع حزب اليمين المتطرف “ليغا” Lega، وحزب رئيس الحكومة الإيطالي الراحل سيلفيو بيرلوسكوني “فورزا إيطاليا” Forza Italia. لقد تحلت حكومتها ببراغماتية بالقدر نفسه من الأيديولوجية، والتزمت بالخطوط المرسومة لناحية محدودية الديمقراطية المحلية، ولكنها التزمت أيضاً بالخطوط الموضوعة من بروكسل [والاتحاد الأوروبي] أيضاً.
وهناك بروكسل أيضاً، والتي تمسك بالسلطة، حيث نجحت جزئياً في الأقل في الحد من طموحات فيكتور أوربان في هنغاريا. إن التوتر المستمر بين النجاح الانتخابي لعهد أوربان على المستوى الوطني، والمتطلبات الأخرى التي يفرضها انتماء هنغاريا إلى الاتحاد الأوروبي، قد لا يكون مثالاً على الإدارة السياسية السلسلة في أي من العاصمتين، لكن من شأن ذلك الحد من المدى الذي يمكن من خلاله اعتبار أن أوربان يمثل الزعيم اليميني المتطرف التقليدي.
ليس هناك من مجال للرضا عن النفس في هذا الإطار بالطبع، لكن الفكرة بأن تيار اليمين المتطرف [وأحزابه]، أو بأي شكل ظهروا، هم في طريقهم إلى اكتساح السلطة في عموم أوروبا يبدو بعيداً من الواقع ــ وحتى أبعد من ذلك بالنظر إلى نتائج انتخابات إسبانيا في الأسبوع الماضي. وأكثر من ذلك، إن المبالغة وعمليات التخويف من “الشعبوية” التي يبدو أنها تأتي وبشكلها الأقوى من المملكة المتحدة تهدد بأن يكون لها أثر معاكس، إذ علينا أن نتمكن من التمييز متى توجب علينا أن نصرخ خائفين [من إمكانية صعود تيار اليمين المتطرف الحقيقي].
رابط مختصر .. https://eocr.eu/?p=10625